وضرب مثالاً آخر مع بلال رضي الله تعالى عنه؛ وذلك عندما جاء أهل حمص يشتكون من خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أشياء، فأرسل عمر بلالاً ، فالرسول هنا هو هذا الإنسان الذي كان في الجاهلية عبداً ومولى، فأرسله عمر إلى خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي الذي كان في ذؤابة قريش وعليائها، فلو كانت المسألة بالعرف، أو بالاعتبار الجاهلي؛ لما جاز لـبلال أن يطيل النظر إليه، ولا أن يرسل إليه، فيأمره أن يحاسبه على الغنائم، وخالد هو الفاتح العظيم، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: سيف الله، ومن كان كذلك فليفعل ما يشاء -على عرف الجاهلية-، وليأخذ من الأموال ما يريد، لا، فهذه الأمور ليست في الإسلام، فمهما كان فلا بد أن يكون ملتزماً بأوامر الله.
فعندما قيل: إنه استأثر بشيء من الغنائم؛ أتى إليه بلال وقيده، ولو علم الروم والفرس أنه قيد لما صدق أحد منهم ذلك على الإطلاق؛ كيف يقيد هذا الذي غلبنا وهزمنا، ويقيده عبد حبشي!
وهذا يذكرنا بما حصل مع سعد بن أبي وقاص أيضاً، وهو قائد القادسية ، فقد أمر عمر بهدم قصره الذي بناه، مع أن إضاعة المال شيء محرم قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه فعل ذلك حتى يثبت هذا المعنى في نفوس الناس.
فذهب بلال وحاسبه على الشاة والبعير والمال: شاة شاة، وبعيراً بعيراً، وديناراً ديناراً، ودرهماً درهماً، حتى ثبتت براءته، ثم أطلقه ورجع إلى عمر رضي الله تعالى عنه.
فهكذا أثبت المسلمون هذه الحقيقة العظيمة: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، و بلال رضي الله عنه من السابقين الأولين؛ فهو خير وأفضل من خالد رضي الله تعالى عنه، مع أنه الذي فتح للإسلام ما فتح، فقد تأخر إسلامه إلى قبل الفتح، فكان هذا أحد الأمثلة التي ضربها المسلمون، والتي أصبحت تقرر أموراً وحقائق بدهية تتعجبون منها لو ذكرت.
وهذه المواقف لم يكن علماء المسلمين يتكلمون عنها، ويفتخرون بها؛ لأنها لم تكن ترد على أذهانهم إلا على أنها بدهيات كالماء والهواء؛ مثل حق الهجرة أو التنقل من مكان إلى مكان، وفي أوروبا إلى الآن، وكذلك الهند ، و الصين ومناطق أخرى لا يستطيع الإنسان أن ينال حق التنقل، أي: لا يستطيع أن ينتقل من بلد إلى بلد ما يستطيع، وهذا الأمر كان عند المسلمين شيئاً معروفاً لا يتكلم فيه أحد بأي حال من الأحوال، فالإنسان له أن يهاجر إلى أي بلد، وينتقل حيث شاء ولا يسأله أحد، وهذه كانت بدهية من بدهيات التاريخ الإسلامي، وفيه غير ذلك من الحقوق.